إنتظار
إنتظار
-1-
كان يتصببُ عرقاً في مشيهِ السّريع خشية أن يتأخر على موعدِه معها ؛ والشّمسُ حارةٌ جداً ..
دخل المقهى وحجز طاولةً لاثنين ؛ وطلب من المدير أن يشغّل أغنيةً إتفقا عليها عندما تحضرُ حبيبته .. كانت تحب تلك الأغنية كثيراً ..
عيناه لم تفارق الواجهة الزجاجية للمقهى منتظراً حضورها .. تمنى لو أنّ الطرقات تصبح أقصر بينهما ؛ لو أن المسافة تنعدم للقاءهما ؛ والوقت يسرع ببعدهما ؛ ويذوب بطيئاً لوجودهما ..
تخيّل لحظة ولوجها المقهى ؛ العيون كلّها عليها ؛ كيف لا وهي أميرة هذا الكون ؟ حتى أنّ المقاعد ستتسابق لتجلسها ؛ والفناجين ستبكي قهوتها كي ترشفها ؛ ويا فرحة الفنجان حين يقبلّ ثغرها .. حتى تلك الأغنية كانت خرساء لو لم تحبّها أذنها ..
كل الشوارع موحشة إذا ما مشت فيها ؛ والأرض بائسة لو لم تطؤها قدمها .. كورقة شجر تلمسها ...
حتى قيظ الشّمس عليها يبرد ؛ والبرد يدفء منها حيث تكون ..
تفقد هديته له ؛ وهل هناك هديةٌ للملائكة؟ زجاجة عطر ! ... وليس من عطر يدانيها ؛ والعطرُ منها يسرق عطره ... تمنى لو أنّ شذاها في هذه الزّجاجة ؛ لكن ما من شيء يحتويها ؛ هي كالهواء تملئ الكون بعبقها البهيِّ ؛ شهيقها صوتُ الريح وزفيرها كهواء الجبال نقيُّ ..
كان الحبّ عنيفاً ينبضُ في قلبِه حتّى خيِّلَ له أنّ كلّ من في المقهى والشّوارع ينتظرونها معه ؛ لكنْ لا أحدٌ يعشقها مثله ؛ وهيَ لنْ تهوى سواه .
التفكيرُ بها كالخمرِ يصعد للرأسِ فينشرُ في الجسد خفةً حتّى يتلاشى وتبقى الروحُ طائرة بين السّموات والأرض كملاكٍ عاشقٍ أو كعصفور صغير عاشق من أقدم العصور ..
والسعادة باديةٌ تقيم الأفراحَ ؛ ويكأنّ الأحزان من الدنيا قُطعَتْ ؛ وبات الفرح يعزف للأرض حتى تدور ؛ والقمر لأجلها لا للأرض يدور .
هي الحبّ البهيّ ؛ هي الشّوق الشّقي ؛ هي حَبُّ النَديِّ ؛ هي الفرحُ حيثما حلَّ فالحزنُ تولّى ؛ هي القمرُ من السّماء تدلّى ... هي الجمال العظيم تجلّى
-2-
لم تأتِ ذاك اليوم إلى المقهى ؛ مرت عشر دقائق ، عشرين ، ثلاثين ؛ وفي نهاية الفنجان الرابع كان اليقين .. لم تأت! .
كان الفُنجان مجرد فُنجان ، يقوم بعمله المعتاد ، يحمل القهوة إلى جوف الإنسان ... لم يكن ينتظر أن يرشفه هذا أو تلك .. بطبيعة الحال ينتظر أنْ تلمؤه القهوة فقط !!
الكراسي أيضاً تقوم بدورها المعروف ، لا تنتظر شخصاً معيناً يجلس عليها ، لربما أصلاً هي رافضةٌ جلوسنا .. تستمر بالوقوف على أرجلها الأربع طوال عمرها ؛ حتّى تُبلى وتهترئ ، تحلم بتلك اللحظة عندما تنام بهدوء ، وإنْ كان الثمن غالٍ .. أن تتحطم أقدامها !
عاد يمشي حين مالت الشّمس لعصرها إنما هذه المرة بطيئاً ، في هكذا جوٍّ حار المشي بسرعة تجنباً لحرارة الشّمس يجعلك تتصبب عرقاً ، المشي ببطئ أفضل .. في المرات القادمة سيمشي أبطئ نحو أيِّ لقاءٍ ..
طريق العودة كان قصيراً ؛ دوماً الهزيمة سهلة وكذلك الاستسلام ..
بالطبع .. فسرعة قطع المسافة تتعلق بالزمن ، والزمن شيءٌ نسبيٌّ غير محدد يختلف إحساسنا به من شخص لآخر فيختلف معه إحساسنا بالمسافة والسرعة ..
وصل منزله .. ثم عصف الغضب به يسأل : يا للحماقة ؛ لا ثمّة من ينتظرها سواك؟
هل أنا كرسي؟ هل أنا فنجان؟ أحجرٌ في الطريق؟ ...
في الحقيقة أن تعرف نفسك هو سؤالٌ صعب لكنّه في غاية الأهمية .
جلس قبالة الجدار وسأله : من تنتظر؟
أجاب الجدار : أذناً على طرفٍ وحديثٌ سريٌّ على الطرف الآخر ..
- وهل هذا حقاً مهم؟
- بالطبع .. وإلا لماذا بنيت الجدران؟
- ربما لنتقي خطر الرياح؟ أو الوحوش الضارية ...
- يا سيدي أنا أقف هنا منذ سبعٍ وعشرين عاماً ؛ لم يأتِ وحشٌ ضارٍ .. ولا هبت ريحٌ عاصفة .. كلُّ ما يحدث هو ما أخبرتك به .. حديثٌ وأذن تسترقه ..
ثم نظر الى المرآة وسأل نفسه .. وأنت أيتها المرآة ماذا تنتظرين؟
- أن يأت مجنونٌ مثلك يكلّم نفسه !! لقد انتظرت كثيراً هذه اللحظة .. كم كرهت عقلانيتك .. هكذا تبدو أفضل ؛ شكراً لك
- أهلاً وسهلاً ..
ذرع الغرفة جيئةً وذهاباً .. يصفع نفسه تارةً ، وتارةً أخرى يَخِرُّ على الأرض يبكي ، ثمّ استلقى على ظهرهِ يضحكُ ، بسط ذراعاه كأنّ ضحكته تحتاح إلى فمٍ أوسع بكثير ..
كم إنتظر أن يضحك بهذا الجنون ، كم مسح دموعه أياماً حالكةً وهو يأملُ أنّ هذه الضحكة ستأتي ...
الصبر هو إدخار الضحك على سخرية القدر لتنفجر الضحكة في نهاية النكتة ، كانت النكتة طويلة وتعج بالتفاصيل ، لقد نسي مغزاها ، نسي كيف بدأت ، كل ما يعرفه أنه انتظر هذا الضحك طويلا .
.
النهاية
16/08/2017
Mohammed Aldebs
-1-
كان يتصببُ عرقاً في مشيهِ السّريع خشية أن يتأخر على موعدِه معها ؛ والشّمسُ حارةٌ جداً ..
دخل المقهى وحجز طاولةً لاثنين ؛ وطلب من المدير أن يشغّل أغنيةً إتفقا عليها عندما تحضرُ حبيبته .. كانت تحب تلك الأغنية كثيراً ..
عيناه لم تفارق الواجهة الزجاجية للمقهى منتظراً حضورها .. تمنى لو أنّ الطرقات تصبح أقصر بينهما ؛ لو أن المسافة تنعدم للقاءهما ؛ والوقت يسرع ببعدهما ؛ ويذوب بطيئاً لوجودهما ..
تخيّل لحظة ولوجها المقهى ؛ العيون كلّها عليها ؛ كيف لا وهي أميرة هذا الكون ؟ حتى أنّ المقاعد ستتسابق لتجلسها ؛ والفناجين ستبكي قهوتها كي ترشفها ؛ ويا فرحة الفنجان حين يقبلّ ثغرها .. حتى تلك الأغنية كانت خرساء لو لم تحبّها أذنها ..
كل الشوارع موحشة إذا ما مشت فيها ؛ والأرض بائسة لو لم تطؤها قدمها .. كورقة شجر تلمسها ...
حتى قيظ الشّمس عليها يبرد ؛ والبرد يدفء منها حيث تكون ..
تفقد هديته له ؛ وهل هناك هديةٌ للملائكة؟ زجاجة عطر ! ... وليس من عطر يدانيها ؛ والعطرُ منها يسرق عطره ... تمنى لو أنّ شذاها في هذه الزّجاجة ؛ لكن ما من شيء يحتويها ؛ هي كالهواء تملئ الكون بعبقها البهيِّ ؛ شهيقها صوتُ الريح وزفيرها كهواء الجبال نقيُّ ..
كان الحبّ عنيفاً ينبضُ في قلبِه حتّى خيِّلَ له أنّ كلّ من في المقهى والشّوارع ينتظرونها معه ؛ لكنْ لا أحدٌ يعشقها مثله ؛ وهيَ لنْ تهوى سواه .
التفكيرُ بها كالخمرِ يصعد للرأسِ فينشرُ في الجسد خفةً حتّى يتلاشى وتبقى الروحُ طائرة بين السّموات والأرض كملاكٍ عاشقٍ أو كعصفور صغير عاشق من أقدم العصور ..
والسعادة باديةٌ تقيم الأفراحَ ؛ ويكأنّ الأحزان من الدنيا قُطعَتْ ؛ وبات الفرح يعزف للأرض حتى تدور ؛ والقمر لأجلها لا للأرض يدور .
هي الحبّ البهيّ ؛ هي الشّوق الشّقي ؛ هي حَبُّ النَديِّ ؛ هي الفرحُ حيثما حلَّ فالحزنُ تولّى ؛ هي القمرُ من السّماء تدلّى ... هي الجمال العظيم تجلّى
-2-
لم تأتِ ذاك اليوم إلى المقهى ؛ مرت عشر دقائق ، عشرين ، ثلاثين ؛ وفي نهاية الفنجان الرابع كان اليقين .. لم تأت! .
كان الفُنجان مجرد فُنجان ، يقوم بعمله المعتاد ، يحمل القهوة إلى جوف الإنسان ... لم يكن ينتظر أن يرشفه هذا أو تلك .. بطبيعة الحال ينتظر أنْ تلمؤه القهوة فقط !!
الكراسي أيضاً تقوم بدورها المعروف ، لا تنتظر شخصاً معيناً يجلس عليها ، لربما أصلاً هي رافضةٌ جلوسنا .. تستمر بالوقوف على أرجلها الأربع طوال عمرها ؛ حتّى تُبلى وتهترئ ، تحلم بتلك اللحظة عندما تنام بهدوء ، وإنْ كان الثمن غالٍ .. أن تتحطم أقدامها !
عاد يمشي حين مالت الشّمس لعصرها إنما هذه المرة بطيئاً ، في هكذا جوٍّ حار المشي بسرعة تجنباً لحرارة الشّمس يجعلك تتصبب عرقاً ، المشي ببطئ أفضل .. في المرات القادمة سيمشي أبطئ نحو أيِّ لقاءٍ ..
طريق العودة كان قصيراً ؛ دوماً الهزيمة سهلة وكذلك الاستسلام ..
بالطبع .. فسرعة قطع المسافة تتعلق بالزمن ، والزمن شيءٌ نسبيٌّ غير محدد يختلف إحساسنا به من شخص لآخر فيختلف معه إحساسنا بالمسافة والسرعة ..
وصل منزله .. ثم عصف الغضب به يسأل : يا للحماقة ؛ لا ثمّة من ينتظرها سواك؟
هل أنا كرسي؟ هل أنا فنجان؟ أحجرٌ في الطريق؟ ...
في الحقيقة أن تعرف نفسك هو سؤالٌ صعب لكنّه في غاية الأهمية .
جلس قبالة الجدار وسأله : من تنتظر؟
أجاب الجدار : أذناً على طرفٍ وحديثٌ سريٌّ على الطرف الآخر ..
- وهل هذا حقاً مهم؟
- بالطبع .. وإلا لماذا بنيت الجدران؟
- ربما لنتقي خطر الرياح؟ أو الوحوش الضارية ...
- يا سيدي أنا أقف هنا منذ سبعٍ وعشرين عاماً ؛ لم يأتِ وحشٌ ضارٍ .. ولا هبت ريحٌ عاصفة .. كلُّ ما يحدث هو ما أخبرتك به .. حديثٌ وأذن تسترقه ..
ثم نظر الى المرآة وسأل نفسه .. وأنت أيتها المرآة ماذا تنتظرين؟
- أن يأت مجنونٌ مثلك يكلّم نفسه !! لقد انتظرت كثيراً هذه اللحظة .. كم كرهت عقلانيتك .. هكذا تبدو أفضل ؛ شكراً لك
- أهلاً وسهلاً ..
ذرع الغرفة جيئةً وذهاباً .. يصفع نفسه تارةً ، وتارةً أخرى يَخِرُّ على الأرض يبكي ، ثمّ استلقى على ظهرهِ يضحكُ ، بسط ذراعاه كأنّ ضحكته تحتاح إلى فمٍ أوسع بكثير ..
كم إنتظر أن يضحك بهذا الجنون ، كم مسح دموعه أياماً حالكةً وهو يأملُ أنّ هذه الضحكة ستأتي ...
الصبر هو إدخار الضحك على سخرية القدر لتنفجر الضحكة في نهاية النكتة ، كانت النكتة طويلة وتعج بالتفاصيل ، لقد نسي مغزاها ، نسي كيف بدأت ، كل ما يعرفه أنه انتظر هذا الضحك طويلا .
.
النهاية
16/08/2017
Mohammed Aldebs
تعليقات
إرسال تعليق